فصل: خلافة المقتدي بأمر الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المقتدي بأمر الله:

وهو سابع عشرينهم، لما توفي القائم بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير بن جهير والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ، ونقيب النقباء، وطراد الزينبي والقاضي أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم، من الأعيان، فبايعوه بالخلافة، ولم يكن للقائم ولد ذكر سواء، فإن محمد بن القائم وكان يلقب ذخيرة الدين توفي في حياة أبيه القائم، وكان لمحمد بن القائم لما توفي جارية اسمها أرجوان فلما توفي محمد ورأت أرجوان ما نال القائم من المصيبة بانقطاع نسله، ذكرت أنها حامل من محمد ابنه، فولدت عبد الله المقتدي، إلى ستة أشهر من موت محمد، فاشتد فرح القائم به وعظم سروره، فلما بلغ المقتدي الحلم جعله القائم ولي عهده.
غير ذلك من الحوادث:
وفيها جمع ملكشاه ونظام الملك جماعة من المنجمين، وجعلوا النيروز عند نزول الشمس، أول الحمل. وكان النيروز قبل ذلك عند نزول الشمس نصف الحوت. وفيها عمل السلطان ملكشاه الرصد، واجتمع في عمله جماعة من الفضلاء منهم عمر الخيام وأبو المظفر الإسفرائيني وميمون بن النجيب الواسطي، وأخرج عليه من الأموال جملاً عظيمة، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة:
فيها ملك أتسز دمشق. كنا قد ذكرنا سنة إحدى وستين ملك أتسز الرملة، وحصاره دمشق، ثم رحل عنها وعاودهم في أيام إدراك الغلات، حتى ضعف عسكر دمشق وتسلمها أتسز في هذه السنة، وقطع الخطبة العلوية، فلم يخطب بعدها في دمشق لهم وأقام الخطبة العباسية يوم جمعة، لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وخطب للمقتدي بأمر الله، ومنع من الأذان بحي على خير العمل.
ذكر غير ذلك:
وفي هذه السنة توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه الواحدي، المفسر، مصنف الوسيط والبسيط والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري ويقال له المتوي نسبة إلى جده متويه، والواحدي نسبة إلى الواحد بن ميسرة، وكان أستاذ عصره في النحو والتفسير وشرح ديوان المتنبي، وليس في الشروح مثله جودة، وكان الواحدي تلميذ الثعلبي، وتوفي الواحدي بعد مرض طويل في هذه السنة بنيسابور.
وفيها توفي الشريف الهاشمي العباس أبو جعفر مسعود بن عبد العزيز، المعروف بالبياضي الشاعر، وله أشعار حسنة فمنها:
كيف يذوي عشب أشوا ** قي ولي طرف مطير

إن يكن في العشق حر ** فأنا العبد الأسير

أو على الحسن زكاة ** فأنا ذاك الفقير

ومنها:
يا من لبست لبعده ثوب الضنا ** حتى خفيت به عن العواد

وأنست بالسهر الطويل فأنسيت ** أجفان عيني كيف كان رقادي

إن كان يوسف بالجمال مقطع الأيدي فأنت مفتت الأكباد وقيل له البياضي لأن بعض أجداده كان مع جماعة من بني العباس، وكلهم قد لبسوا أسود غيره، فسأل الخليفة عنه وقال من ذلك البياضي، فبقي عليه لقباً.
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة:
فيها سار أتسز المتولي على دمشق إلي مصر وعاد مهزوماً إلى الشام. قيل كانت هزيمته لقتال جرى بين الفريقين، وقيل بل انهزم بغير قتال، وهلك جماعة من أصحابه.
وفي هذه السنة أورد ابن الأثير موت محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، أقول: لكني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم أن محموداً المذكور مرض في سنة شع وستين وأربعمائة، وحدث به قروح في المعى، مات بها، ولحقه في أواخر عمره من البخل ما لا يوصف، ولما مات في السنة المذكورة، ملك حلب بعده ابنه نصر بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الكلابين فمدحه ابن جيوش بقصدية منها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ** فلا افترقت ما افتر عن ناظرٍ شفر

ضميرك والتقوى وجودك والغنى ** ولفظك والمعنى وعزمك والنصر

وكان لمحمود بن نصر سجية ** وغالب ظني أن سيخلفها نصر

وكان عطية بن جيوش على محمود إذا مدحه، ألف دينار، فأعطاه نصر ألف دينار، مثل ما كان يعطيه أبوه محمود، وقال: لو قال: وغالب ظني أن سيضعفها نصر لأضعفتها له، وكان نصر يدمن شرب الخمر فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه حلب وهم بالحاضر، وأراد قتالهم فضربه واحد منهم بسهم نشاب فقتله، ولما قتل نصر ملك حلب أخوه سابق بن محمود، ولم يذكر ابن الأثير تاريخ قتل نصر متى كان. ثم إني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم تاريخ قتل نصر المذكور، قال: وفي يوم عيد الفطر سنة ثمان وستين وأربعمائة عيّد نصر بن محمود وهو في أحسن زي وكان الزمان ربيعاً، واحتفل الناس في عيدهم وتجملوا بأفخر ملابسهم، ودخل عليه ابن جيوش فأنشده قصيدة منها:
صفت نعمتان خصتاك وعمتا ** حديثهما حتى القيامة يؤثر

فجلى نصر فشرب إلى العصر، وحمله السكر على الخروج إلى الأتراك وسكناهم في الحاضر، وأراد أن ينهبهم وحمل عليهم، فرماه تركي بسهم في حلقه فقتله، وكان قتله يوم الأحد مستهل شوال، سنة ثمان وستين وأربعمائة، ولما قتل نصر ملك حلب بعده أخوه سابق ابن محمود.
وفيها توفي طاهر بن أحمد بن باب شاذ النحوي المصري، توفي بأن سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر، فمات لوقته.
ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة:
فيها توفي عبد الرحيم بن محمد بن إسحاق الأصفهاني الحافظ، له يهوياقيم تصانيف كثيرة منها: تاريخ أصفهان، وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصفهان، يقال لهم العبد رحمانية.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة:
استيلاء تنش على دمشق:
في هذه السنة ملك تاج الدولة تنش بن السلطان ألب أرسلان دمشق، وسببه أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام، وما يفتحه، فسار تاج الدولة تنش إلى حلب وكان قد أرسل بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر عسكراً إلى حصار أتسز بدمشق، فأرسل أتسز يستنجد تنش وهو نازل على حلب يحاصرها، فسار تنش إلى دمشق، فلما قرب منها رحل عنها عسكر مصر كالمنهزمين، فلما وصل إلى دمشق ركب أتسز لملتقاه بالقرب من المدينة، فأنكر تنش عليه تأخره عن الطلوع إلى لقائه، وقبض على أتسز وقتله وملك تنش دمشق، وأحسن السيرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة:
فيها غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بلاد الهند، فأوغل فيها وفتح وغنم وعاد إلى غزنة سالماً.
ملك مسلم بن قريش مدينة حلب:
في هذه السنة، سار شرف الدولة بن قريش بن بدران بن المقلد بن السميب صاحب الموصل إلى حلب، فحصرها، فسلم البلد إليه في سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وتسلم القلعة.
ذكر غير ذلك:
وفيها توفي نصر بن أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، وملك بعده ابنه سور بن نصر ودبر دولته ابن الأنباري. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن جيوش. الشاعر المشهور، وقد تقدم ذكر مديحه لنصر بن محمود صاحب حلب.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ودخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة:
فيها كانت فتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة. وفيها أرسل الخليفة المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولاً إلى السلطان ملكشاه، وإلى نظام الملك، فسار من بغداد إلى خراسان، ليشكو من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث، فأكرم السلطان ونظام الملك الشيخ أبا إسحاق، وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجوبني مناظرة بحضرة نظام الملك، وعاد بالإجابة إلى ما التمسه الخليفة، ورفعت يد العميد عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة.
وفيها توفي أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، قتله مماليكه الأتراك بكرمان.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة:
فيها في جمادى الآخرة توفي الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي الفيروز أبادي، وفيررز أباد بلدة بفارس، ويقال هي مدينة جون. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقيل سنة ست وتسعين، وكان أوحد عصره علماً وزهداً وعبادة، ولد بفيروز أباد ونشأ بها، ودخل شيراز وقرأ بها الفقه، ثم قدم إلى البصرة، ثم إلى بغداد في سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان إمام وقته في المذهب والخلاف والأصول وصنف المهذب، والتنبيه والتلخيص، والنكت، والتبصير، واللمع، ورؤوس المسائل. وكان فصيحاً، وله نظم حسن فمنه:
سألت الناس عن خل وفي ** فقالوا ما إلى هذا سبيل

تمسك إن ظفرت بود حر ** فإن الحر في الدنيا قليل

وله:
جاء الربيع وحسن وردة ** ومضى الشتاء وقبح برده

فاشرب على وجه الحبي ** ب ووجنتيه وحسن خده

وكان مستجاب الدعوة مطرح التكلف، ولما توجه إلى خراسان في رسالة الخليفة قال: ما دخلت بلدة ولا قرية إلا وكان خطيبها وقاضيها تلميذي، ومن جملة أصحابي. وفيها توفي أبو الحجاج بن يوسف بن سليمان الأعلم الشنتمري، رحل إلى قرطبة واشتغل بها. وكان إماماً في العربية والأدب وشرح الحماسة، ونسبته إلى شنتمرية، مدينة بالأندلس.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة:
فيها سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه، إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك وقيل أكسب، والأول أصح، جد الملوك الأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم، وانحصر في آمد، ونزل الأمير أرتق على آمد، فحصره فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكنه من الخروج من آمد فأذن له أرتق، وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به، ثم سير السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير بعسكر كثيف، وسير معه، أقسنقر قسيم الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا أقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى سلطان، فقدم شرف الدولة إليه، وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيح، وكان قد ذهبت أمواله، فاقترض شرف الدولة مسلم، ما خدم به السلطان، وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه التي نجا عليه في المعركة. المشهور وكان اسم الفرس بشاراً، وكان سابقاً، وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً، فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب، فرضي السلطان على مسلم، وخلع عليه وأقره على بلاده.
فتح سلمان بن قطلومش أنطاكية:
في هذه السنة سار سلمان بن قطلومش السلجوقي صاحب قونية، وأقصرا، وغيرهما من بلاد الروم، فملك مدينة أنطاكية بمخامرة الحاكم فيها من جهة النصارى، وكانت أنطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فافتتحها سليمان في هذه السنة.
قتل شرف الدولة مسلم وملك أخيه إبراهيم لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية وأرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب، يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً، فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية، ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وقد قدمنا ذكر مقتله لتتبع الحادثة بعضها بعضاً، وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب أحول، واتسع ملك مسلم بن قريش المذكور، وزاد ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج وديار ربيعة ومضر من الجزيرة وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل، وغيرهم، وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة، بالأمر والعدل، ولما قتل، قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة، بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.
وفي هذه السنة ولد لملكشاه ولد بسنجار، فسماه أحمد، ثم غلب عليه اسم سنجر لكونه ولد بسنجار، وهو السلطان سنجر على ما تجيء أخباره، كذا نقله المؤرخون، والذي يغلب على ظني أنه سماه على عادة الترك، فإنهم يسمون صنجر، ومعناه يطعن، والناس يقولونه بالسين.
وفيها توفي أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد الصباغ الفقيه الشافعي، صاحب الشامل والكامل، وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف، بعد أن أضر عدة سنين، ومولده سنة أربعمائة، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغدادي، المعروف بابن القفال، وهو من شيوخ أصحاب الشافعي، وكان إليه القضاء بباب الأزج.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة:
فيها ملك الفرنج طليطلة من الأندلس بعد أن حاصرها الأدفونش سبع سنين، وكان سبب ذلك تفرق ممالك الأندلس على ما تقدم ذكره في سنة سبع وأربعمائة.
وفي هذه السنة استولى فخر الدولة بن جهير على آمد، ثم على ميافارقين، ثم على جزيرة ابن عمر، وهي بلاد بني مروان وأخذها من منصور بن نصر بن مروان وهو آخر من ملك منهم، وانقرضت بأخذ الجزيرة منه مملكة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها سار أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر، فحصر دمشق وبها تاج الدولة تنش، وضيق عليه، فلم يظفر بشيء، فارتحل عائداً إلى مصر.
وفيها في ربيع الآخر توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجويني ومولده في الكامل سنة عشرة وأربعمائة، وفي تاريخ ابن أبي الدم أن مولده سنة تسع عشرة وأربعمائة، وهو إمام العلماء في وقته، وله عدة مصنفات منها: نهاية المطلب في دراية المذهب، سافر إلى بغداد، ثم إلى الحجاز وأقام بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي ويصنف، وأم بالناس في الحرمين الشريفين، فسمي لذلك إمام الحرمين، ثم رجع إلى نيسابور وجعل إليه الخطابة، ومجلس الذكر، والتدريس، وبقي على ذلك ثلاثين سنة، وحظي عند نظام الملك، وله عدة تلاميذ من الفضلاء كالغزالي وأبي القاسم الأنصاري وأبي الحسن علي الطبري، وهو المعروف بالكيا الهراس، وكان إمام الحرمين قد ادعى الاجتهاد المطلق، لأن أركانه كانت حاصلة له، ثم عاد إلى اللائق وتقليد الإمام الشافعي، لعلمه أن منصب الاجتهاد قد مضت سنوه.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة:
قتل سليمان بن قطلومش:
لما قتل سليمان مسلم بن قريش في سنة ثمان وسبعين، على ما ذكرناه في سنة سبع وسبعين، أرسل سليمان إلى ابن الحبيبي العباسي مقدم أهل حلب، يطلب تسليم حلب، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحبيبي، استدعى تنش صاحب دمشق بن السلطان ألب أرسلان، أخا السلطان ملكشاه، فسار تنش إلى حلب، وكان مع تنش أرتق بن أكسك، وقد فارق خدمة ملكشاه، خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، على ما قدمنا ذكره، وجرت الحرب بين تنش وابن سليمان بن قطلومش فانهزم عسكر سليمان، وثبت سليمان، فقيل إن سليمان انهزم عسكره، أخرج سكيناً وقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، وكان سليمان قد أرسل جثة مسلم بن قريش على بغل، ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه في السنة الماضية، في سادس صفر، فأرسل تنش جثة سليمان في هذه السنة في سادس صفر ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحبيبي بالمماطلة، إلى أن يرد مرسوم ملكشاه في أمر حلب بما يراه، فحاصر تنش حلب وضيق على أهلها وملكها، فاستجار ابن الحبيبي بالأمير أرتق بن أكسك، فأجاره، وأما قلعة حلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش، سالم بن مالك بن بدارن بن المقلد بن المسيب، العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فحاصر تنش سبعة عشر يوماً فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.
وصول السلطان ملكشاه إلى حلب:
كان ابن الحبيبي قد كاتب السلطان في أمر حلب، فسار إليها من أصفهان، في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حرّان، وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن، قريش وسار إلى الرها، وهي بيد الروم من حين اشتروها من ابن عطير، كما قدمنا ذكره فحصرها وملكها، وسار إلى قلعة جعبر، واسمها الدوسرية، ثم عرفت بقلعة جعبر لطول مدة ملك جعبر لها، وبها صاحبها سابق الدين جعبر القشير المذكور، وهو شيخ أعمى فأمسكه وأمسك ولديه، وكانا يقطعان الطريق ويخيفان السبيل، ثم صار إلى منبج فملكها، وسار إلى حلب فلما قاربها رحل أخوه تنش عن حلب على البرية، وتوجه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حلب وتسلمها، وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي، على أن يعوضه بقلعة جعبر، فسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده ويد أولاده، إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولما نزل السلطان ملكشاه بحلب، أرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر، ودخل في طاعته وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه السلطان إلى المسالمة وترك قصده، وأقر عليه شيزر، ولما ملك السلطان ملكشاه حلب، سلمها إلى قسيم الدولة أقسنقر، ثم ارتحل السلطان إلى بغداد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
وفي هذه السنة في ربيع الأول توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مرثد الأسدي، صاحب الحلة والنيل. وغيرهما، وكان فاضلاً وله شعر جيد. واستقر مكانه ولده صدقة، ولقب سيف الدولة.
ملك يوسف بن تاشفين غرناطة من الأندلس وانقراض دولة الصنهاجية منها:
في هذه السنة عدّى البحر يوسف بن تاشفين أمير المسلمين، من سبتة إلى الجزيرة الخضراء بسبب استيلاء الفرنج على بلاد الأندلس، واجتمع إليه أهل الأندلس، مثل المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الأندلس، وجرى بينهم وبين الأدفونش قتال شديد، نصر الله فيه المسلمين، وانهزم الفرنج وقتل منهم ما لا يحصى، حتى جمعوا من رؤوسهم تلاً وأذنوا عليه، وملك يوسف غرناطة، وأخذها من صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس بن مالس بن بلكين بن زبري الصنهاجي.
من تاريخ القيروان قال: وأول من حكم من الصناهجة في غرناطة راوي بن بلكين، ثم تركها وعاد إلى إفريقية في سنة عشر وأربعمائة، فملك غرناطة ابن أخيه حبوس بن مالس بن بلكين، وبقي بها حتى توفي في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس بن حبوس، وبقي حتى توفي، وولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين بن حبوس، ودام فيها حتى أخذها منه يوسف بن تاشفين في هذه السنة.
وذكر صاحب تاريخ القيروان أن أخذ يوسف غرناطة، كان في سنة ثمانين وأربعمائة.
ولنرجع إلى ذكر ابن تاشفين. ثم إن يوسف بن تاشفين عبر البحر إلى سبتة، وأخذ معه عبد الله صاحب غرناطة المذكور، وأخاه تميماً إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه يوسف بن تاشفين من الأندلس. وفيها سار ملكشاه عن حلب ودخل بغداد في ذي الحجة وهو أول قدومه إلى بغداد، ثم خرج إلى الصيد، فصاد من الوحوش شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى بغداد واجتمع بالخليفة المقتدي، وأقام ببغداد إلى صفر من سنة ثمانين، وعاد إلى أصفهان. وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة، مسلم بن قريش مدينة الرحبة، وأعمالها، وحران وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا بنت ألب أرسلان. وفيها كانت زلازل عظيمة حتى فارق الناس ديارهم، وفيها توفي الشريف أبو نصر الزيني العباسي، نقيب الهاشميين وهو محدث مشهور على الإسناد.
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة وسنة إحدى وثمانين وأربعمائة:
فيها توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وهو الأقوى. ولكن تابعنا ابن الأثير وإيراده وفاة المذكور في هذه السنة، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وكان حسن السيرة حازماً، ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود بن إبراهيم، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه. وفيها جمع أقسنقر صاحب حلب عساكره وسار إلى قلعة شيزر، وصاحبها نصر بن علي بن منقذ، وضيق عليه ونهب الربض، ثم صالحه ابن منقذ المذكور، فعاد أقسنقر إلى حلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة:
فيها سار السلطان ملكشاه بجيوش لا تحصى كثرة، إلى ما وراء النهر، وعبر جيحون وسار إلى بخارى، وملك ما على طريقه من البلاد، ثم ملك بخارى، ثم سار إلى سمرقند فملكها وأسر صاحبها أحمد خان وأكرمه، ثم سار السلطان إلى كاشغر فبلغ إلى بوزكند، وأرسل إلى ملك كاشغر يأسره بإقامة الخطبة له والسكة، فأجاب إلى ذلك، وسار ملك كاشغر وحضر عند السلطان ملكشاه، فأكرمه السلطان وعظمه وأعاده إلى ملكه، ثم رجع السلطان إلى خراسان.
ذكر غير ذلك:
فيها عمرت منارة جامع حلب، وقام بعملها القاضي أبو الحسن بن الخشاب، وكان بحلب ليت نار قديم، ثم صار أتون حمام، فأخذ ابن الخشاب المذكور حجارته وبنى بها المأذنة المذكورة، فسعى بعض حسدة ابن الخشاب به إلى أقسنقر، وقال: إن هذه الحجارة لبيت المال، فأحضره أقسنقر وحدثه في ذلك، فقال ابن الخشاب: يا مولانا إني عملت بهذه الحجارة معبداً للمسلمين، وكتبت عليه اسمك، فإن رسمت غرّمت ثمنها. فأجابه أقسنقر إلى إتمام ذلك، من غير أن يأخذ منه شيئاً. وفيها توفي عاصم بن محمد بن الحسن البغدادي من أهل الكرخ، وكان مطبوعاً كيسّاً وله شعر حسن فمنه:
ماذا على متلوّن الأخلاق ** لو زارني فأبثه أشواقي

وأبوح بالشكوى إليه تذللاً ** وأفضُّ ختم الدمع من آماقي

أسر الفؤاد ولم يرق لموثق ** ما ضره لو منَّ بالإطلاق

إن كان قد لسعت عقارب صدغه ** قلبي فإن رضا به ترياقي

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة:
فيها توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، بالموصل، في المحرم، منها، وكان مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتنقل في الخدم، فخدم بركة بن المقلد حتى قبض على أخيه حقرواش، ثم سار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة ثمال بن صالح بن مرداس، ثم مضى إلى نصر الدولة أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، فوزر له ثم وزر لولده، ثم سار إلى بغداد فولي وزارة الخليفة، ثم سار مع السلطان ملكشاه، ففتح له ديار بكر وأخذها من بني مروان.
وفي هذه السنة في شعبان كان صعود الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية على قلعة الألموت وظهور دعوته.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة:
فيها تولى عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير وزارة الخليفة المقتدي.
ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس:
في هذه السنة سار يوسف بن تاشفين أمير المسلمين من مراكش إلى سبتة وأقام بها، وسير العساكر مع شير بن أبي بكر إلى الأندلس، فعبروا البحر وأتوا إلى مدينة مرسية، فملكوها وأخذوها من صاحبها أبي عبد الله بن طاهر، ثم ساروا إلى مدينة شاطبة ودانية فملكوهما، وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج، ثم أخلوها فملكها عسكر أمير المسلمين، وعمرها، وكان يوسف أمير المسلمين، قد ملك غرناطة فيما قبل، على ما تقدم ذكره، ثم سار إلى أشبيلية، فحصروها وبها صاحبها، المعتمد بن عباد، فملكوها وأخذوا المعتمد بن عباد صاحبها، وأرسلوه إلى يوسف بن تاشفين فحبسه حتى مات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولما فرغ شير وعساكر يوسف بن تاشفين من إشبيلية ساروا إلى المرية، وكان بها صاحبها، محمد بن صمادح بن معن، فلما بلغه أخذ إشبيلية، ومسير العسكر إليه، مات غماً وكمداً، ولما مات سار ولده الحاجب بن محمد بن صمادح بأهله وماله عن المرية في البحر، إلى بلاد بني حماد، المتاخمين لإفريقية فأحسنوا إليهم، ثم قصد شير بطليوس فأخذها من صاحبها عمر بن الأفطس، وكان عمر بن الأفطس ممن أعان شير على ابن عباد حتى ملك إشبيلية، ثم رجع ابن الأفطس إلى بطليوس، فسار إليه شير وملكها منه، وأخذ عمر بن الأفطس وولديه الفضل والعباس ابني عمر المذكور فقتلهم صبراً، ولم يترك شير من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها المستعين بالله بن هود يهادي يوسف بن تاشفين ويخدمه، قبل أن يقصد بلاد الأندلس فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه علي بن يوسف بن تاشفين عند موته، بترك التعرض إلى بلاد بني هود.
استيلاء الفرنج على صقلية:
قد تقدم ذكر فتح صقلية، وتوارد الولاة عليها من جهة ابن الأغلب، ثم من جهة الخلفاء العلويين، فلما كان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة كان الأمير على صقلية أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن الحسين، من جهة العزيز خليفة مصر، فأصاب يوسف المذكور فالج، وبطل جانبه الأيسر، فاستناب ابنه جعفر بن يوسف وبقي جعفر أميراً بصقلية إلى سنة عشر وأربعمائة، فثار به أهل صقلية وحصروه بقصره لسوء سيرته، وكان أبو يوسف حينئذ حياً، مفلوجاً فخرج، إلى أهل صقلية في محفة فبكوا عليه وشكوا ابنه جعفر، وسألوا أن يولي عليهم ابنه أحمد، المعروف بالأكحل، ففعل يوسف ذلك، ثم سير يوسف ابنه جعفر إلى مصر، وسار هو بعده، ومعهما أموال جليلة، وكان ليوسف المذكور من الدواب أربعة عشر ألف حجرة سوى البغال وغيرها، واستمر الأكحل في صقلية، وأحسن السيرة، وبث السرايا في بلاد الكفار، وأطاعه جميع قلاع صقلية وبلادها التي للمسلمين.
ثم حصل بين الأكحل وبين أهل صقلية وحشة، فسار بعض أهل صقلية إلى إفريقية، إلى المعز ابن باديس فأرسل المعز بن باديس إلى صقلية جيشاً مع ابنه عبد الله بن المعز بن باديس في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فحصروا الأكحل في الخالصة وقتل الأكحل في الحصار.
ثم إن أهل صقلية كرهوا عسكر المعز، فقاتلوهم، فانهزم عسكر المعز وابنه عبد الله وقتل منهم ثمانمائة رجل، ورجعوا في المراكب إلى إفريقية وولى أهل صقلية عليهم أخا الأكحل واسمه الصمصام بن يوسف، واضطربت أحوال أهل صقلية عند ذلك واستولى الأراذل، ثم أخرجوا الصمصام وانفرد كل إنسان ببلد، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواش بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن التمنة بمدينة سيرقوس وقطانية، فوقع بينهم، واستنصر ابن التمنة بالفرنج الذين بمدينة مالطة، واسم ملكهم رجار، وهون عليهم أمر المسلمين، فسار الفرنج وابن التمنة إلى البلاد التي بأيدي المسلمين، في سنة أربع وأربعين وأربعمائة واستولوا على مواضع كثيرة من الجزيرة، وفارق الجزيرة حينئذ خلق كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة إلى المعز بن باديس إلى إفريقية. ثم استولى الفرنج على غالب بلاد صقلية وحصونها، وليس لهم مانع، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت وحصرهما الفرنج، وطال الحصار عليهما حتى أكل أهلهما الميتة، فسلم أهل جرجنت أولاً وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، ثم أذعنوا، وملك رجار جميع الجزيرة في هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ثم مات رجار قبل سنة تسعين، وتولى بعده ولده وسلك طريقة ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والجاندارية وغير ذلك، وأسكن في الجزيرة الفرنج مع المسلمين، وأكرم المسلمين ومنع من التعدي عليهم وقربهم.
وصول السلطان ملكشاه إلى بغداد:
في هذه السنة في رمضان، وصل السلطان ملكشاه إلى بغداد، ووصل إليه أخوه تنش من دمشق، وأقسنقر من حلب، ووصل إليه غيرهما من زعماء الأطراف وعمل الميلاد ببغداد، واحتفل له الناس احتفالاً عظيماً، وأكثر الشعراء من وصف تلك الليلة.
وفي هذه السنة أمر ملكشاه بعمل الجامع المعروف بجامع السلطان ببغداد، وعمل قبلته بهرام منجمه، وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ أمراء السلطان الكبار بعمل مساكن لهم ببغداد، بحيث إذا قدموا إلى بغداد ينزلون فيها. فتفرق شملهم بالموت والقتل بعد ذلك عن قريب.
وفيها توفي الأمير أرتق ابن أكسك التركماني، جد الملوك أصحاب ماردين، مالكاً للقدس منذ قدم إلى تنش حسبما تقدم ذكره، ولما توفي أرتق استقرت القدس لولديه إيلغازي وسقمان ابني أرتق، إلى أن سار الأفضل أمير الجيوش من مصر، وأخذ القدس منهما فسار إيلغازي وسقمان إلى الشرق، فكان منهما ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة:
استيلاء تنش على حمص وغيرها:
كان السلطان ملكشاه قد أمر أقسنقر بمساعدة أخيه تنش على ملك الشام، وما بأيدي خليفة مصر العلوي، من البلاد، فسار أقسنقر مع تنش، ونزل على حمص، بها صاحبها خلف بن ملاعب، فملك تنش حمص، وأمسك ابن ملاعب وولديه، ثم سار تنش إلى عزقة فملكها ثم سار إلى أفامية فملكها.
مقتل نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق:
وسببه أنه حصل بين ملكشاه وبين نظام الملك وحشة، فلما كان عاشر رمضان من هذه السنة، بعد الإفطار، وهم بالقرب من نهاوند، وقد انصرف نظام الملك إلى خيمة حرمه، وثب عليه صبي ديلمي في صورة مستعط، وضرب نظام الملك بسكين فقضى عليه، وأدرك أصحاب نظام الملك ذلك الصبي فقتلوه، وحصل للعسكر بسبب مقتله شوشة، فركب السلطان وسكن العسكر، وكان نظام الملك قد كبر، فإن مولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان قتله بتدبير من السلطان ملكشاه، ومات السلطان ملكشاه بعده بخمسة وثلاثين يوماً على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكان نظام الملك من أبناء الدهاقين بطوس، وماتت أم نظام الملك وهو رضيع فكان يطوف به والده على المرضعات فيرضعنه حسبة، ثم انتشأ نظام الملك وتعلم العربية، وسمع الحديث، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به حتى خدم طغريل بك وصار وزيره، واستمر على وزارته، ولما صار الملك إلى ألب أرسلان كان نظام الملك مع ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان، وقام بأمره حتى صارت السلطنة إلى ملكشاه، فبلغ نظام الملك من المنزلة ما لم يبلغه غيره من الوزراء، وقرب العلماء وبنى المدارس في سائر الأمصار، وأسقط المكوس وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان قد فعله عميد الملك الكندري كما تقدم ذكره، وأوصافه كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.
وفاة السلطان ملكشاه:
كان السلطان ونظام الملك قد سارا عن بغداد في العام الماضي إلى أصفهان فعادا من أصفهان في هذه السنة متجهين إلى بغداد، فقتل نظام الملك بالقرب من نهاود، كما ذكر، وأتم السلطان السير ودخل بغداد، في الرابع والعشرين من رمضان هذه السنة، ثم خرج السلطان ملكشاه من بغداد إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً بحمى محرقة، وتوفي ليلة الجمعة نصف شوال، وهو ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان مولده في سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى بلاد اليمن، وحملت له ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب، وكانت أيامه أيام عدل وسكون وأمن، فعمرت البلاد ودرت الأرزاق، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وكان غاوياً بالصيد، وكان يتصدق بعدد كل وحش يصيده بدينار، وصاد مرة صيداً كثيراً تقديره عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار.
ملك الملك محمود بن ملكشاه وحال أخيه بركيارق بن ملكشاه:
لما مات السلطان ملكشاه، أخفت زوجته تركان خاتون موته، وفرقت الأموال في الأمراء، وسارت بهم إلى أصفهان، واستحلفت العسكر لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له في بغداد وغيرها، وكان تاج الملك هو الذي يدير الأمر بين يدي تركان خاتون، وأما أخوه بركيارق، فإنه هرب من أصفهان لما وصلت تركان خاتون إليها، وانضم إلى بركيارق النظامية لبغضهم تاج الملك، لأنه هو الذي سعى في نظام الملك حتى كان من قتله ما كان، فقوي بركيارق بهم، فأرسلت تركان خاتون عسكراً إلى بركيارق والنظامية، فاقتتلوا بالقرب من بروجرد فانهزم عسكر خاتون وسار بركيارق في أثرهم وحصرهم بأصفهان، وكان تاج الملك في عسكر تركان خاتون، فأخذ أسيراً، وأراد بركيارق الإحسان إلى تاج الملك وأن يوليه الوزارة، فوثبت النظامية عليه فقتلوه، وكان تاج الملك المذكور ذا فضائل جمة، وخرجت هذه السنة والأمر على ذلك.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة:
فيها خرج من أصفهان الحسن بن نظام الملك إلى بركيارق، وهو محاصر لأصفهان، فأكرمه وولاه وزارته، ولقبه عز الملك. وفيها تحرك تنش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه أقسنقر صاحب حلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية، وبزان صاحب الرها وسار تنش ومعه أقسنقر فافتتح نصيبين عنوة، ثم قصد الموصل، وكنا ذكرنا في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة، مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب وغيرهما، استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم، ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها، فلما قصد تنش في هذه السنة الموصل، خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد، انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، وملك تنش الموصل، واستناب تنش على الموصل علي بن مسلم بن قريش، وأمه ضيفة عمة تنش، وأرسل تنش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها، ثم سار تنش واستولى على ديار بكر، وسار إلى أذربيجان وكان قد استولى بركيارق على كثير منها، فسار بركيارق إلى عمه تنش ليمنعه، فقال أقسنقر: نحن إنما أطعنا تنش لعدم قيام أحد من أولاد السلطان ملكشاه، أما إذا كان بركيارق ابن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره، وخلى أقسنقر تنش ولحق ببركيارق، فضعف تنش لذلك وعاد إلى الشام.
ذكر غير ذلك:
في هذه السنة ملك عسكر المستنصر بالله العلوي خليفة مصر مدينة صور.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة:
في هذه السنة يوم الجمعة رابع عشر المحرم خطب لبركيارق ببغداد.
وفاة المقتدي بأمر الله في هذه السنة:
توفي الخليفة المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن محمد ذخيرة الدين بن القائم، مات فجأة يوم السبت خامس عشر المحرم، وكان عمر المقتدي ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وخلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله، وكان المقتدي قوي النفس عظيم الهمة.